المرحوم أسعد ندرة اسكندافي، والد الأب وليد، رئيس دير القديس بطرس.
انتقل إلى رحمته تعالى صباح يوم الأحد الواقع في 22 آذار السيّد أسعد ندرة اسكندافي عن عمر يناهز السابعة والسبعين بعد صراع مع مرض عضال. وقد أقيمت صلاة الجناز لأجل راحة نفسه في كنيسة القديس جاورجيوس في قرية الدمينة الشرقيّة. وألقى خلالها ابن الفقيد، الأب وليد، كلمةً هذا نصّها:
أصحاب السيادة الموقرين، آبائي الكهنة الأجلاء، أخواتي الراهبات الفاضلات، أيّها المؤمنون الأحباء.
أحبّ أن أبدأ أوّلاً بشكر الله تعالى على كلّ النعم الكثيرة التي أنعم وينعم بها علينا.
فأن نرى ونسمع ونتذوّق ونتحسّس ونسير على أرجلنا ونتكلّم؛ أن تأكل لقمة طيّبة وتستمتع بها؛ أن نشرب كأس ماء بارد؛ كلّها نِعَم لا يقدّرها حقّ قدرها إلاّ من فقد إحداها.
أشكر الله على نعمة الحياة والسنوات السبعة والسبعين التي أعطاها لوالدي، والتي كانت مزيجًا من أفراح كثيرة وألم، من سعادة وضيق في بعض الأحيان، من حلاوة ومرارة، من عمل وجهد وكفاح وتضحية.
أشكر الله على نعمة الألم المطهّر الذي تحمّله في أيّامه الأخيرة، وبه شارك يسوع في آلامه الخلاصيّة. وقد كنّا خلالها على يقين ثابت بأنّ الله معنا، لأنّه إله المحبّة، والمحبّة لا يمكنها إلاّ أن تشعر وتتحسّس وترتعش لألم الآخر وحاجته. ومهما تلبّدت السماء بالغيوم، أو أُثقِل قلبُنا بالهموم والمشاكل والآلام، نؤمن بما وعدنا به يسوع ربُّنا حين قال: "ستفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح". نعم، فسعادة الله التي نرجوها لأنفسنا، أبعد من أن تنفي الألم؛ لا بل تتضمّنه على نحوٍ سرّيّ عجيب لا يمكننا إدراكه.
أيّها الأحبّاء،
في حين أنّ مئات بل الآلاف في العالم يفارقون الحياة وهم بعيدون عن أهلهم وذويهم؛ مئات الآلاف يموتون بسبب الجوع والكوارث والحروب؛ وآخرون كثيرون يموتون قهرًا وظلمًا، متروكين ومهملين ويائسين ومعذّبين، وما من أحد يكترث لأمرهم؛ كان حظّنا أن يرقد والدي محاطًا برفيقة دربه وأبنائه وبناته وأحفاده، بصور القديسين، مرافقًا بصلوات مسبحة الوردية وقراءات من الإنجيل الطاهر، وهذه من النعم العظيمة التي لا بدّ أن أشكر الله عليها.
أشكر الله أنّني عشت في كنف هذه الأسرة وفي رعاية هذا الوالد الفاضل الذي هو مثيل لمئات الآباء الصالحين والطييبن القلب في هذه القرية المباركة. فهو لم يقف يومًا في طريق الدعوة التي دعينا إليها أنا وأخي الأب أندراوس، بل شجّعنا دومًا في الطريق الذي اخترناه. وعبّر عن فخره وفرحه وامتنانه لله بأن نصل إلى هذه النعمة العظيمة، التي من خلالها نسعى لتقديس أنفسنا والآخرين في الحقّ.
أيّها الأحبّاء،
نحن عائلة الفقيد نودّعه اليوم مرافقين بصلواتكم ودعمكم ومحبّتكم. نودّعه ونحن على يقين ثابت، وإيمان كبير، بأنّ القيامة هي محور إيماننا المسيحيّ. وبأنّنا مدعوون لا لنعيش سنوات يمكن أن تطول أو تقصر على هذه الأرض وتنتهي بالموت؛ بل نحن مدعوين إلى حياة أبدية نعيشها مع الله. وما الموت إلاّ الباب الذي ندخل منه إلى رحاب السموات الواسعة.
نؤمن بأنّ الموت ليس نهاية عبثيّة لحياة أرضيّة محدودة في الزمن، وليس تلاشيًا في العدم، بل هو عبور نحو الحياة الأبديّة، حيث سنكون جميعنا في الكلّ أي في الله. الموت بالنسبة للمؤمن هو الصباح الأعظم، الذي لا يعقبه مساء. هو العيد الكبير، والاحتفال بالعودة إلى الينبوع الذي منه خرجنا.
هذا لا يعني بأنّ الزمن المعطى لنا لا معنى له، بل إنّما هو الأساس الذي نبني عليه مسكنَنا السماويّ. هو زمن خلاص ونعمة وتقديس وفداء. وعلينا أن نستفيد من كلّ لحظة معطاة لنا، لنصفح ونسامح ونحبّ ونعطي ونتاجر بالوزنات التي استودعنا إيّاها الله تعالى والتي سوف يحاسبنا عليها.
هذا ما اختبرناه نحن أولاد الفقيد في الأشهر القليلة السابقة، منذ أن عرفنا بأن لا أمل لشفائه.
أيّها الأحبّاء
كم هو جميل ونافع أن نعيش ونحيا وكأنّ اللحظة التي نعيشها أو الساعة أو اليوم هو اليوم الأخير الذي نحياه في هذه الدنيا.
كم من التفاهات تسقط من قاموس حياتنا. كم من القشور تتحطّم، لتتكشّف الحقيقة ببهائها ورونقها وروعتها. هذه الحقيقة التي شهد لها يسوع في حياته ومماته وقيامته. هذه الحقيقة التي تتلخّص في كلمة محبّة، التي تنفي الكبرياء والبغض والحقد والخصام والطمع...
لا تحزنوا كباقي الناس الّذين لا رجاء لهم،
أبي العزيز،
مع إيماننا العميق بهذه الدعوة التي أطلقها بولس الرسول، فقد كان يؤلمنا ويحزّ في قلبنا أن نقف مكتوفي الأيدي في مواجهة هذا المرض الذي كان ينهش أعضاءَك ولم يجد الطبّ له دواءً ناجعًا.
لو كان بالإمكان أن نفديَك بدمائنا وقلوبنا لما تردّدنا.
دموعَك التي ذرفتها أثناء مرضك وآلامك المبرّحة كانت تكوينا في الصميم.
كم من مرة رجوت العذراء مريم أن تعيرني قسطًا من ألمك لأريحك ولو قليلاً. ولكن هي مشيئة الله، لا اعتراض عليها. ومع يسوع نردّد: لا تكن مشيئتُنا يا الله بل مشيئتك.
عزاؤنا أنّك فارقت هذه الحياة ونحن نحيط بك ونحمل حبَّك الكبير في قلبنا وعقلنا. هذا الحبّ الذي يغفر لنا ما يمكن أن نكون قد قصّرنا به أو أخطأنا تجاهك.
والدي الحبيب،
يا من لم أحبب أحدًا مثيل حبّك.
لقد حاولتُ، في حياتي، أن أتمثّل صدقَك وأمانتك ورقّة عاطفتك.
تعلّمتُ منك ومن إيمانك بأنّ العلاقة مع الله لا تستقيم إلاّ من خلال القريب الذي نعيش معه. ولذا كنتَ تمتنع عن التقرّب من المناولة الإلهيّة يوم كنت تشعر أن في قلبك بعضًا من كره أو بغض، وبأنّ علاقتك مع أحد ما، ليست كما يريدها صوت الله المزروع في ضميرك الحيّ.
ذكرُك سيبقى أبدًا فينا. لن نخذلَك نحن أولادك وأنت في دنيا الحقّ بمحبّتنا لبعضنا البعض، وتضامننا ووحدتنا، والسعي دومًا لأن نكون مخلصين لك في عملنا وسلوكنا وسيرتنا المستقيمة أمام الله والناس.
عهدنا لك أن نبقى أوفياء لما زرعته فينا من عاطفة إنسانيّة وصدق وأمانة وشفافيّة في التعامل مع من نلتقيهم في حياتنا.
والدي الحبيب،
نم قرير العين
ففراقنا وإن طال الزمان به
سوف يعقبه اللقاء
نرى فيه وجه الله
ونتمتّع سويًّا بما لم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر
مما أعدّه الله للذين آمنوا ووضعوا رجاءهم به.
أيّها الإخوة الأحبّاء
باسمي شخصيًّا، وباسم والدتي، وأخي الأب أندراوس، وإخوتي وأخواتي وعائلاتهم، أشكر لكم جميعًا مشاركتكم لنا هذه الصلاة عن نفس المرحوم والدي.
أطلب من الله تعالى أن يغفرَ له كلّ ما خطأ به، بالقول أو بالفعل، عن معرفة أو عن جهل. وان يعطيَكم جميعًا حياة مديدة، تعيشونها في المحبّة والقداسة والصحة والسلام. بنعمته تعالى وشفاعة أمّنا مريم العذراء.
للفقيد الرحمة ولكم طول البقاء.
تقبل التعازي في منزل الفقيد في قرية الدمينة الشرقية أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 22_23_24آذار من الساعة الرابعة وحتّى الساعة الثامنة مساءً، وفي مرمريتا في دير القدّيس بطرس يوم الأحد الواقع في 29 آذار من الساعة الرابعة وحتى الساعة الثامنة مساءً.